فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}.
عطفٌ على جملة {اسْرِ بعبادي} [طه: 77] الواقعة تفسيرًا لفعل {أوحينا إلى موسى} [طه: 77]، فقوله: {ومَا أعْجَلَكَ عَن قومِكَ} هو مما أوحى الله به إلى موسى.
والتقدير: وأنْ: ما أعجلك إلخ.
وهو إشارة إلى ما وقع لهم أيام مناجاة موسى في الطور في الشهر الثالث لخروجهم من مصر.
وهذا الجزء من القصة لم يذكر في سورة الأعراف.
والإعجال: جعْل الشيء عاجلًا.
والاستفهام مستعمل في اللّوْم.
والذي يؤخذ من كلام المفسرين وتشير إليه الآية: أنّ موسى تعجّل مفارقة قَومه ليحضر إلى المناجاة قبل الإبّان الذي عيّنه الله له، اجتهادًا منه ورغبة في تلقي الشريعة حسبما وعده الله قبل أن يحيط بنو إسرائيل بجبل الطور، ولم يراع في ذلك إلا السبق إلى ما فيه خير لنفسه ولقومه، فلامه الله على أن غفل عن مراعاة ما يحفّ بذلك من ابتعاده عن قومه قبل أن يوصيهم الله بالمحافظة على العهد ويحذّرهم مكر من يتوسّم فيه مكرًا، فكان في ذلك بمنزلة أبي بكر حين دخل المسجد فوجد النبي صلى الله عليه وسلم راكعًا فركع ودَبّ إلى الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ».
وقريبٌ من تصرّف موسى عليه السلام أخذُ المجتهد بالدليل الذي له معارض دون علم بمعارضة، وكان ذلك سبب افتتان قومه بصنع صنم يعبدونه.
وليس في كتاب التّوراة ما يشير إلى أكثر من صنع بني إسرائيل العجل من ذهب اتخذوه إلهًا في مدّة مغيب موسى، وأن سبب ذلك استبطاؤهم رجوع موسى {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [طه: 91].
وقوله هنا {هُمْ أُوْلاءِ على أَثَرِي} يدل على أنّهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة.
واعتذر عن تعجّله بأنه عجّل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه، فقوله تعالى: {فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} فيه ضرب من المَلام على التعجل بأنّه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وُقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير.
والأثَر بفتحتين: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدَم أو حافر أو خفّ.
ويقال: إثْر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب.
فمعنى قولهم: جاء على إثره، جاء مواليًا له بقرب مجيئه، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام مَن مشى قبله قبل أن يتغيّر ذلك الأثرُ بأقدام أخرى، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره.
والمعنى: هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي، أي موالون لي في الوصول.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدَمِي». تقديره: يحشرون سائرين على آثار قدمي.
وقرأ الجمهور: {على أَثرِي} بفتحتين.
وقرأه رويس عن يعقوب بكسر الهمزة وسكون الثاء.
واستعمل تركيب {هُمْ أُوَلاءِ} مجرّدًا عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافًا لقوله في سورة النساء (109): {ها أنتم هؤلاء جادلتم}، وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة، نحو قول عبد بني الحسحاس:
هَا أنا دُون الحبيببِ يا وَجع

وتقدّم عند قوله تعالى: {ها أنتم أولاء تحبونهم} في سورة آل عمران (119).
وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مُقدّره وخالقُ أسبابه البعيدة.
وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله: {وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.
و{السَّامِرِيُّ} يظهر أن ياءه ياء نسبة، وأن تعريفه باللاّم للعهد.
فأما النسبة فأصلها في الكلام العربي أن تكون إلى القبائل والعشائر؛ فالسامريّ نسب إلى اسم أبي قبيلة من بني إسرائيل أو غيرهم يقارب اسمه لفظ سَامِر، وقد كان من الأسماء القديمة شُومر وشامر وهما يقاربان اسم سامر لاسيما مع التعريب.
وفي أنوار التنزيل: السامريّ نسبة إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها: السامرة اهـ.
أخذنا من كلام البيضاوي أن السامريّ منسوب إلى قبيلة وأما قوله من بني إسرائيل فليس بصحيح.
لأنّ السامرة أمّة من سكان فلسطين في جهة نَابلس في عهد الدولة الروميّة البيزنطية وكانوا في فلسطين قبل مصير فلسطين بيد بني إسرائيل ثمّ امتزجوا بالإسرائيليين واتبعوا شريعة موسى عليه السلام مع تخالف في طريقتهم عن طريقة اليهود.
فليس هو منسوبًا إلى مدينة السامرة القريبة من نابلس لأنّ مدينة السامرة بناها الملك عَمْري ملك مملكة إسرائيل سنة 925 قبل المسيح.
وجعلها قصبة مملكته، وسماها شوميرون لأنّه بناها على جبل اشتراه من رجل اسمه: شَامر بوَزْنتَين من الفضة، فعُرّبت في العربية إلى سامرة، وكان اليهود يَعُدونها مدينة كفر وجور، لأنّ عمري بانيها وابنه آخاب قد أفسدا ديانة التّوراة وعبدا الأصنام الكنعانية.
وأمر الله النبي إلياس بتوبيخهما والتثوير عليهما، فلا جرم لم تكن موجودة زمن موسى ولا كانت ناحيتها من أرض بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام.
ويحتمل أن يكون السامريّ نسبًا إلى قرية اسمها السامرة من قرى مصر، كما قال بعض أهل التفسير، فيكون فتى قبطيًا اندس في بني إسرائيل لتعلّقه بهم في مصر أو لصناعة يصنعها لهم.
وعن سعيد بن جبير: كان السامريّ من أهل كرمان، وهذا يقرّب أن يكون السامريّ تعريبَ كرماني بتبديل بعض الحروف وذلك كثير في التعريب.
ويجوز أن تكون الياء من السامريّ غير ياء نسب بل حرفًا من اسم مثل: ياء عليّ وكرسيّ، فيكون اسمًا أصليًا أو منقولًا في العبرانية، وتكون اللاّم في أوّله زائدة.
وذكر الزمخشري والقرطبي خليطًا من القصة: أن السامريّ اسمه موسى بن ظَفَر بفتح الظاء المعجمة وفتح الفاء وأنه ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن خَاله، وأنه كفَر بدين موسى بعد أن كان مؤمنًا به، وزاد بعضهم على بعض تفاصيل تشمئزّ النفس منها.
واعلم أن السامريين لقب لطائفة من اليهود يقال لهم أيضًا السامرة، لهم مذهب خاص مخالف لمذهب جماعة اليهوديّة في أصول الدّين، فهم لا يعظمون بيت المقدس وينكرون نبوءة أنبياء بني إسرائيل عدا موسى وهارون ويوشع، وما كانت هذه الشذوذات فيهم إلاّ من بقايا تعاليم الإلحاد التي كانوا يتلقونها في مدينة السامرة المبنيّة على التساهل والاستخفاف بأصول الدين والترخّص في تعظيم آلهة جيرتهم الكنعانيين أصْهار ملوكهم، ودام ذلك الشذوذ فيهم إلى زمن عيسى عليه السلام ففي إنجيل متى إصحاح 10 وفي إنجيل لوقا إصحاح 9 ما يقتضي أن بلدة السامريين كانت منحرفة على اتباع المسيح، وأنه نهى الحواريين عن الدخول إلى مدينتهم.
ووقعت في كتاب الخروج من التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين زلّة كبرى، إذ زعموا أنّ هارون صنع العجل لهم لمّا قالوا له: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنا لا نعلم ماذا أصاب موسى في الجبل فصنَع لهم عجلًا من ذهب.
وأحسب أنّ هذا من آثار تلاشي التّوراة الأصلية بعد الأسر البابلي، وأن الذي أعاد كتبها لم يحسن تحرير هذه القصة.
ومما نقطع به أنّ هارون معصوم من ذلك لأنه رسول.
{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}.
الغضب: انفعال للنفس وهيجان ينشأ عن إدراك ما يسوؤها ويسخطها دون خوف، والوصف منه غَضبان.
والأسف: انفعال للنفس ينشأ من إدراك ما يحزنها وما تكرهه مع انكسار الخاطر.
والوصف منه أسِف.
وقد اجتمع الانفعالان في نفس موسى لأنه يسوؤه وقوع ذلك في أمته وهو لا يخافهم، فانفعاله المتعلّق بحالهم غضب، وهو أيضًا يحزنه وقوع ذلك وهو في مناجاة الله تعالى التي كان يأمل أن تكون سبب رضى الله عن قومه فإذا بهم أتوا بما لا يرضي الله فقد انكسر خاطره بين يديه ربّه.
وهذا ابتداء وصف قيام موسى في جماعة قومه وفيهم هارون وفيهم السامريّ، وهو يقرع أسماعهم بزواجر وعظه، فابتدأ بخطاب قومه كلهم، وقد علم أن هارون لا يكون مشايعًا لهم، فلذلك ابتدأ بخطاب قومه ثمّ وجّه الخطاب إلى هارون بقوله: {قال يا هارون ما منعك} [طه: 92].
وجملة {قَالَ ياقومم أَلَم} مستأنفة بيانية.
وافتتاح الخطاب ب {ياقوم} تمهيدٌ لِلّوم لأن انجرار الأذى للرجل من قومه أحق في توجيه الملام عليهم، وذلك قوله: {فَأَخْلَفْتُم مَوْعِدِي}.
والاستفهام في {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} إنكاري؛ نزِّلوا منزلة من زعم أن الله لم يعدهم وعدًا حسنًا لأنّهم أجروا أعمالهم على حال من يزعم ذلك فأنكر عليهم زعمهم.
ويجوز أن يكون تقريريًا، وشأنه أن يكون على فرض النّفي كما تقدم غير مرّة.
والوعْدُ الحسن هو: وعده مُوسى بإنزال التّوارة، ومواعدته ثلاثين ليلةً للمناجاة، وقد أعلمهم بذلك، فهو وعد لقومه لأنّ ذلك لصلاحهم، ولأنّ الله وعدهم بأن يكون ناصرًا لهم على عدوّهم وهاديًا لهم في طريقهم، وهو المحكي في قوله: {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه: 80].
والاستفهام في {أفَطَالَ عَلَيْكُم العَهدُ} مُفرّع على قوله: {ألَمْ يَعِدكُم رَبُّكُمْ}، وهو استفهام إنكاري، أي ليس العهد بوعد الله إياكم بعيدًا.
والمراد بطول العهد طول المدّة، أي بُعدها، أي لم يبعد زمن وعد ربّكم إياكم حتى يكون لكم يأس من الوفاء فتكفروا وتكذّبوا مَن بلغكم الوعد وتعبدوا ربًا غير الذي دعاكم إليه مَن بلغكم الوعد فتكون لكم شبهة عذر في الإعْراض عن عبادة الله ونسيان عهده.
والعهد: معرفة الشيء وتذكّره، وهو مصدر يجوز أن يكون أطلق على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق، أي طال المعهود لكم وبعُد زمنه حتى نسيتموه وعملتم بخلافه.
ويجوز أن يبقى على أصل المصدر وهو عهدهم الله على الامتثال والعمل بالشريعة.
وتقدم في قوله تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} وقوله: {وأوفوا بعهدي} في [سورة البقرة: 27 و40].
و{أَم} إضراب إبطالي.
والاستفهام المقدّر بعد {أَمْ} في قوله: {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم} [طه: 86] إنكاري أيضًا، إذ التقدير: بل أردتم أن يحل عليكم غضب، فلا يكون كفركم إذن إلا إلقاءً بأنفسكم في غضب الله كحال من يحب أن يحِل عليه غضب من الله.
ففي قوله: {أَرَدْتُمْ أن يَحِلَّ عَلَيكُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّكُمْ} استعارة تمثيلية، إذ شبه حالهم في ارتكابهم أسباب حلول غضب الله عليهم بدون داع إلى ذلك بحال من يحبّ حلول غضب الله عليه؛ إذ الحب لا سبب له.
وقوله: {فَأَخْلَفْتُم مَوْعِدِي} تفريع على الاستفهام الإنكاري الثاني.
ومعنى {مَوْعِدِي} هو وعد الله على لسانه، فإضافته إلى ضميره لأنه الواسطة فيه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}.
نقول: ما أعجلك؟ يعني: ما أسرع بك؟ لماذا جئتَ قبل موعدك؟ وكان موسى عليه السلام على موعد مع ربه عز وجل ليتلقى عنه المنهج، والمفروض في هذا اللقاء أنْ يأتيَ معه مجموعة من صَفْوة قومه ورؤسائهم، فتعجل موسى موعد ربه، وذهب دون قومه، فقال له: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} [طه: 83] أي: أسرعتَ وتعجَّلْتَ وجِئْتَ بدونهم.
فقال موسى عليه السلام: {قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي}.
أي: قادمين خلفي وسيتبعونني، أما أنا فقد {عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] تعجَّلْتُ في المثول بين يديك لترضى.
وقد تعجَّل موسى إلى ميقات ربه، وسبق قومه لحكمة، فالإنسان حين يأمر غيره بأمر فيه مشقّة على النفس وتقييد لشهواتها، لابد أن يبدأ بنفسه يقول: أنا لست بنجْوَةٍ عن هذا الأمر، بل أنا أول مَنْ أُنفِّذ ما آمركم به، وسوف أسبقكم إليه.
لذلك يقول القائد الفاتح طارق بن زياد لجنوده: واعلموا أني إذا التقى الفريقان مُقبِل بنفسي على طاغية القوم لزريق فقاتله إن شاء الله، فإن قتلته فقد كُفيتم أمره وهكذا تكون القيادة قدوة ومثَلًا كما يقولون في الأمثال اعمل كذا وإيدي في إيدك وهنا يقول: يدي قبل يدك.
فموسى عليه السلام يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] ترضى أن منهجك يُطبِّق من جهتي كرسول مؤتمن عليه، ومن جهة قومي؛ لأنهم حين يروني قد تعجلت للقائك في الموعد يعلمون أن في ذلك خيرًا لهم، وإلا ما سبقتهم إليه. وبذلك يسود منهج الله ويُمكَّن في الأرض، وإذا ساد منهج الله رضي الله. عن خليفته في الأرض.
ثم يُخبر الحق تبارك وتعالى نبيه موسى عليه السلام بما كان من قومه بعد مفارقته لهم من مسألة عبادة العجل.
{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)}.
الفتنة: ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، ونتيجته هي التي تُحمَد أو تُذمّ، كما لو دخل التلميذ الامتحان فإنْ وُفِّق فهذا خير له، وإنْ أخفق فهذا خير للناس، كيف؟